فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله؟ هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل. ونظير هذه قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه}، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده. كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَالفاسدَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب، لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود، لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} فالحسب هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أبتاعه مع الله في هذه الكفاية؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد، أكثر من أن نذكرها هنا. انتهى.
قال الخفاجي في العناية: وتضعيفه الرفع لا وجه له، فإن الفراء والكسائي رجّحاه، وما قبله وما بعده يؤيده. انتهى.
وأقول: هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة، كما هو دأبه، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وقفة لما ضعفه، والفراء والكسائي من علماء العربية، ولأئمة التأويل فقه آخر، فتبصر ولا تكن أسير التقليد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}
استئناف ابتدائي بالإقبال على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأوامر وتعاليم عظيمة، مُهّد لقبولها وتسهيلها بما مضى من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين، وإظهار أن النجاح والخير في طاعته وطاعة الله، من أوّل السورة إلى هنا، فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كَامل الاتّساق والانتظام، فإنّه لمّا أخبره بأنّه حَسبه وكافيه، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فلا جرم أنتج ذلك أنّ حسبه الله والمؤمنون، فكانت جملة: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} كالفذلكة للجملة التي قبلها.
وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله.
والقول في وقوع حسب مسندًا إليه هنا كالقول في قوله آنفًا {فإنّ حسبك الله} [الأنفال: 62].
وفي عطف المؤمنين على اسم الجلالة هنا: تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاَق المشترك على معنيين، فهو كقوله: {إن الله وملائكة يصلون على النبي}.
وقيل يُجعل {ومن اتبعك} مفعولًا معه لقوله: {حسبك} بناء على قول البصريين إنّه لا يعطف على الضمير المجرور اسم ظاهر، أو يجعل معطوفًا على رأي الكوفيين المجوّزين لمثل هذا العطف.
وعلى هذا التقدير يكون التنويه بالمؤمنين في جعلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشريف، والتفسير الأول أولى وأرشق.
وقد روي عن ابن عبّاس: أنّ قوله: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب.
فتكون مكّيّة، وبقيت مقروءة غير مندرجة في سورة، ثم وقعت في هذا الموضع بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أنسب لها.
وعن النقّاش نزلت هذه الآية بالبيداء في بدر، قبل ابتداء القتال، فيكون نزولها متقدّما على أوّل السورة ثم جعلت في هذا الموضع من السورة.
والتناسب بينها وبين الآية التي بعدها ظاهر مع اتّفاقهم على أنّ الآية التي بعدها نزلت مع تمام السورة فهي تمهيد لأمر المؤمنين بالقتال ليحقّقوا كِفايتهم الرسول. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}
قال بعض العلماء: إن قوله: {وَمَنِ اتبعك} في محل رفع بالعطف على اسم الجلالة، أي حسبك الله، وحسبك أيضًا من اتبعك من المؤمنين.
وممن قال بهذا. والحسن، واختاره النحاس وغيره، كما نقله القرطبي، وقال بعض العلماء: هو في محل خفض بالعطف على الضمير الذي هو الكاف في قوله: {حَسْبُكَ} وعليه، فالمعنى حسبك الله أي كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين، وبهذا قال الشعبي، وابن زيد وغيرهما، وصدر به صاحب الكشاف، واقتصر عليه ابن كثير وغيره، والآيات القرآنية تدل على تعيين الوجه الأخير، وأن المعنى كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]، فجعل الإيتاء لله ورسوله، كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعل الحسب مختصًا به وقال: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟ فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده، وتمدح تعالى بذلك في قوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وقال تعالى: {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} [الأنفال: 62] ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده.
وقد أثنى سبحانه وتعالى على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث افردوه بالحسب، فقال تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] وقال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله} [التوبة: 129] الآية. إلى غير ذلك من الآيات، فإن قيل: هذا الوجه الذي دل عليه القرآن، فيه أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، ضعفه غير واحد من علماء العربية، قال ابن مالك في (الخلاصة):
وعود خافض لدى عطف على ** ضمير خفض لازمًا قد جعلا

فالجواب من أربعة أوجه:
الأول: أن جماعة من علماء العربية صححوا جواز العطف من غير إعادة الخافض، قال ابن مالك في (الخلاصة):
وليس عندي لازمًا إذ قد أتى ** في النظم والنثر الصحيح مثبتا

وقد قدمنا في سورة النساء في الكلام على قوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} [النساء: 127] شواهده العربية، ودلالة قراءة حمزة عليه، في قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1].
الوجه الثاني: أنه من العطف على المحل، لأن الكاف مخفوض في محل نصب، إذ معنى {حَسْبُكَ} يكفيك، قال في (الخلاصة):
وجر ما يتبع ما جر ومن ** راعى في الاتباع المحل فحسن

الوجه الثالث: نصبه بكونه مفعولًا معه، على تقدير ضعف وجه العطف، كما قال في (الخلاصة):
والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق ** والنصب مختار لدى ضعف النسق

الوجه الرابع: أن يكون {وَمَن} مبتدأ خبره محذوف، أي {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} فحسبهم الله أيضًا، فيكون من عطف الجملة، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}
وإياك أن تظن أن الله عز وجل يعاقب الكفار لأنهم لم يؤمنوا برسل الله فقط، ولكن لأن الكون يفسد بسلوكهم، وهو سبحانه غير محتاج لأن يؤمن به أحد، ثم إن دين الحق سينتصر سواء آمن الناس به أم لم يؤمنوا، وسبحانه يريد بالمنهج الذي أنزله كل الخير والسعادة لعباده؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17].
فإذا دخل أحد في الإسلام فلا يمن على الله أنه أسلم؛ لأن إسلامه لن يزيد في ملك الله شيئًا، وليعلم أن الله سبحانه وتعالى قد منّ عليه بهدايته للإسلام وهي لصالحه. ويريد الله من رسوله ألا يلتفت إلى عدد الكفار أو قوتهم؛ لأن معه الأقوى، وهو الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول: {حَسْبُكَ الله} [الأنفال: 64] أي يكفيك الله.
وقوله تعالى: {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64].
هي داخلة في {حَسْبُكَ الله}. لأن الله هو الذي هدى هؤلاء المؤمنين للإيمان فآمنوا.
ويكون المعنى: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، أي يكفيكم الله، وعلى ذلك فلا تلتمس العزة إلا من الحق سبحانه وتعالى.
ويمكن أن يكون المعنى يكفيك الله فيما لا تستطيع أن تحققه بالأسباب. ويكفيك المؤمنون فيما توجد في أسباب.
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {يا أيها النبي} [الأنفال: 64].
وهذا النداء إنما يأتي في الأحداث؛ أما البلاغ فيقول الله تعالى: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67].
إذن فالحق سبحانه وتعالى ينادي الرسول ب {يا أيها النبي} حين يكون الأمر متعلقا بالأسوة السلوكية، أما إذا كان الأمر متعلقا بتنزيل تشريع، فالحق سبحانه يخاطبه صلى الله عليه وسلم بقوله: {يا أيها الرسول} ذلك أن الرسل جاءوا مبلغين للمنهج عن الله، ويسيرون وفق هذا المنهج كأسوة سلوكية. على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد ذكر كل رسول باسمه في القرآن الكريم فقال: {يا موسى}، وقال: {يا عيسى بن مريم}، وقال: {يا إبراهيم}. إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد خاطبه ب: {يأيها النبي}، وب {يأيها الرسول}، وهذه لفتة انتبه إليها أهل المعرفة، وهذا النداء فيه خصوصية لخطاب الحضرة المحمدية، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا ءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35].
وينادي سيدنا نوحًا قائلًا سبحانه: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ} [هود: 48].
وينادي سيدنا موسى فيقول: {أَن يا موسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} [القصص: 30].
وينادي سيدنا عيسى فيقول: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116].
فكل نبي ناداه الحق تبارك وتعالى ناداه باسمه مجردًا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل له قط: يا محمد، وإنما قال: {يأيها النبي}، و{يأيها الرسول}. والحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها أراد أن يلفت نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن يعلم أنه يكفيه الله والمؤمنين مهما قل عددهم لينتصروا على الكفار. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}
أخرج البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}.
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلًا وامرأة، ثم إن عمر رضي الله عنه أسلم، فصاروا أربعين فنزل: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلًا وست نسوة، ثم أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم عمر نزلت: {يا أيها النبي حسبك الله...} الآية.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: لما أسلم عمر رضي الله عنه، أنزل الله في إسلامه {يا أيها النبي حسبك الله}.
وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري رضي الله عنه في قوله: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} قال: فقال: نزلت في الأنصار.
وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي رضي الله عنه في قوله: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} قال: حسبك الله وحسبك من اتبعك.
وأخرج أبو محمد اسمعيل بن علي الحطبي في الأول من تحديثه من طريق طارق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أسلمت رابع أربعين، فنزلت: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}.
وأخرج عن مجاهد رضي الله عنه في الآية قال: يقول: حسبك الله والمؤمنون. اهـ.